مدونة رسالي .. للأدب و الفن الرسالي

صفير القطار قادم

11 يونيو, 2011

صفير القطار قادم

لا يدري .. ربما كان نائما أو ميتا ، لكنه إذ أفاق بغتة ، تخيل نفسه أنه اغتيل .
كان يا ما كان ، في هذا العصر و الأوان ، كان ثمة أنسي شاب ، في الخمسين ، أبيض الشعر ، أسمر الجبهة ، عريض ما بين المنكبين ، ضاقت به الأحوال في بلده ، فقرر الترحال ، و أعد لذلك عدته ، بنى محطة قطار صغيرة ، و جلس ينتظر القطار ، و كان موقنا أنه قادم في زمن ما ، من الشمال أو الجنوب ، من الشرق أو الغرب .. قادم .. صفيره يملأ الآذان ، و غبش دخانه .. يرى في الأفق ، و عجلاته عرباته تكر على خطوط حديدية لم تمد بعد .

هيأ دموعا و منديلا و حقيبة كبيرة ، و كلمات قليلة ، و وقف في المحطة التي لم يزرها بشر سواه يصغي إلى صوت قاطرة قادمة من بعيد ، و يمني نفسه بأن تقف في محطته .
لم يعد يذكر ، لفرط ما انتظر ، أمسافر هو أم مقيم ؟! .. مستقبل أو مودع ؟!.. و كان يتوهم أنه يعرف الوقت من تعاقب الليل و النهار ، و من تحرك ظله في وقفته ، كشجرة مورقة وحيدة ، تحت الشمس ، لكن سرعان ما أدرك أنه مضى زمن طويل ، منذ أن بنى المحطة بساعديه و عرقه ، و أن الأيام قد تشابهت ، أدرك الليل و النهار ، و سارا معا في عينيه مثل فرسين ،بيضاء و سوداء تتسابقان ببطء السلحفاة .
و فجأة ! ملأ الصفير سمعه ، و لم يشك لحظة في أنه القطار المرجو ، ها قد جاء الفرج أخيرا ، يا لفرحة المنتظر الذي أثلجت أعضاؤه لفرط ما انتظر ، بدأ الصفير خافتا كأنه صدى أغنية قديمة ، ثم وضح و ارتفع الصوت ، و امتدت القضبان الحديدية فجأة فملأت محطته ، و حمل الهواء إلى أنفه رائحة دخان فحم حجري مشتعل .
انتهى الانتظار إذا !
كان قد قرر الرحيل ، ا و كان القطار الذي كان ينتظر حثه يقول :
– احزم متاعك ، و تخلى عن كل شيء .
و ما كان يريد أن يهجر حبا و وطنا دافئا ، لكنه استسلم لإغراء الرحيل ، عندما رأى الحضن يبرد و الحب يفتر و الوطن يلفظ ، قال للقطار :
– يا رحيلي … يا فراقي ، قد يميتني الحزن ، آخر مرة نمت فيها حلمت بغرفة مربعة الشكل ، متران بمترين من التراب ، لكنهما مليئان بالأشجار و الأزهار و الأطيار و الأضواء يمارس فيها الحب دون ما خوف .. غرفة .. أرضها الترابية بساط الريح ، يمر فيها نهر ، لمائه مثل طعم العسل ، لقد حلمت أنني استبدلت وجهي بوجه آخر ، لا تقف الأحزان على قسماته ، كان حلما لذيذا ، و مرعبا كذلك … يا رحيلي !
تذكر كل ذلك عندما رأى القطار لأول مرة .
دخل القطار محطته يلهث و يتثاءب ، فملاه فرح غامر ، لأول مرة يتوقف القطار في المحطة الصغيرة ، لم يكن ثمة مسافرون ، لا حقائب و لا مناديل و لا دموع ، كان مجرد قطار قادم توقف في محطة ، أراد أن يصعد إلى عربة من عرباته ، فلم يجد لها أبوابا أو نوافذ .. يا عجبا .. أهكذا غدت قطارات هذا الزمان ؟! ارتبك ملأه حزن غامر ، و لفرط كآبته جزع إذ سمع صفير القطار يؤذن بالرحيل ، بعد ثوان من وقوفه .
لم يبك ، أراد أن يمنع القطار من الرحيل ، كان من حقه ، هو المنتظر المتيبس من الانتظار ، أن يعرف سر القطار الذي لا يحمل مسافرين ، و الذين يتبختر بين محطات الدنيا بعربات ليس لها أبواب و نوافذ .
و سمع صفير القاطرة يعلو و يشتد ، و ملأ عينيه و فمه ، لكنه لم ينثن و أصر على ركوبه .
أخيرا تحرك القطار ، لهث و تثاءب ، ، و سمع دوي عجلاته شبيها بانفجار متواصل .
اغتاله القطار الذي كان ينتظره .. واأسفاه على شبابه .. فأنامه نومته الأخيرة و غاص في رحلته التي لا عودة منها .
فلكل إنسان يأتيه في يوم من الأيام قطاره (أي موته) الذي ينتظره.

نشرت في مجلة صوت الخليج ٢٧/٣/١٩٩٩م

القراءات :1837

إضافة تعليق

احدث التدوينات

الأرشيف
بحث عن :
شبكاتي الاجتماعية
Untitled 1



 

                                                                    
                             مدونة رسالي - محمد شاكر جراغ © كافة الحقوق محفوظة 2010-2013 
                                                                 www.jaraq.net